Friday, January 05, 2007

الحديقة الجوراسية

للكاتب الأمريكي: مايكل كرايتون

قصة وصفت بأنها ضرب من الخيال العلمي، وإن كان العلم الحديث قد يحولها قريبا إلى حقيقة علمية. فالكثير من العلماء يقولون إن السؤال الحقيقي المفروض طرحه ليس: "هل يمكن استخدام علم الجينات لإعادة الديناصورات؟"، بل السؤال هو: "متى سيتمكن العلماء من تحقيق ذلك؟" إذ أن علم الجينات والتقنية البيولوجية قد وصل إلى مرحلة لا يمكن بعدها التنبؤ بما يمكن إنجازه إذا استطاع البشر أن يتلاعبوا بالـ DNA (وهو الحمض الأميني الذي تسجل فيه كل المواصفات الوراثية لجميع المخلوقات الحية على الكرة الأرضية.)

تكمن المشكلة في أن المؤسسات العلمية للأبحاث أصبحت لا تقع تحت سيطرة الحكومات بل دخلت ضمن القطاع الخاص. فيمكن لأي رجل أعمال اليوم أن يؤسس معملا للأبحاث مزودا بأحدث الأجهزة العلمية، ويعمل به علماء بيولوجيا اكتشفوا أن الربح المادي بات أهم من المناصب الأكاديمية في الجامعات، فانضموا لهذه المؤسسات الخاصة، بل وقام بعضهم بشراء أسهم فيها. وتبرز المعضلة هنا، وهي الأخلاقيات. هل سيهتم هؤلاء العلماء بالناحية الأخلاقية، أم سيكون همهم الوحيد هو الربح المادي؟

وهو السؤال نفسه الذي يطرحه المؤلف مايكل كرايتون في كتابه الذي استعان في تأليفه بمراجع علمية عديدة (وهو ما عوّدنا عليه كرايتون في جميع مؤلفاته). فقد صوّر لنا المليونير "هاموند" الذي يحلم ببناء متنزه فريد من نوعه. وبواسطة أمواله وأموال مستثمرين عدة، قام بشراء جزيرة صغيرة في أمريكا الجنوبية وبنى عليها مركز أبحاث كانت مهمته استخراج بقايا دماء من بطون الحشرات القديمة المحبوسة في مادة الكهرمان، وغيرها من الإفرازات النباتية التي تحجرت عبر العصور. والمدهش أن هذه الحشرات كانت تعيش في عصر الديناصورات وكانت تمتص دماءها. وهذا ما يبحث عنه العلماء في مركز الأبحاث هذا. وبعد استخراج الدماء قام فريق بفك رموز الـ DNA الموجود فيها وحقنه في أجنة زواحف تم نزع الـDNA الأصلي لها. ونتج عن هذه التجارب إعادة 15 نوعا من فصائل الديناصورات. وهنا واجهتهم مشكلة العناية بهذه الديناصورات التي لا يعرف عن حياتها إلا القليل. فقام "هاموند" بالاستعانة بخبرة الدكتور "غرانت" – خبير مستحاثات الديناصورات – حيث كان يسأله عن كل كبيرة وصغيرة ويستخدم هذه المعلومات في العناية بالديناصورات بسرية كاملة. وبعد انتهاء بناء الحديقة الجوراسية (الإسم الذي أطلقوه عليها نسبة للعصر الجوراسي الذي عاشته الديناصورات) قام "هاموند" بدعوة "غرانت" ومساعدته الدكتورة "ساتلر" – خبيرة النباتات المندثرة – (بالإضافة إلى عالم في الرياضيات) لزيارة حديقته حيث فوجئ العلماء بوجود ديناصورات حية في أقفاص ضخمة تغطي مساحة الجزيرة بأكملها. واعتقد المليونير أن "غرانت" و"ساتلر" سيتحمسان لفكرته ومشروعه ولكنه اندهش من رد فعلهم.

فإذا بالدكتور "غرانت" يسأله عن الجدوى من وجود حيوانات عملاقة في عالمنا الحديث. إذ أن هذه الحيوانات كانت قد حكمت الكرة الأرضية لملايين السنين ثم اندثرت بعد أن أخذت فرصتها في دورة الحياة. وليس من حق أي شخص أن يحاول إعادتها من جديد. كما أن الغلاف الجويّ اليوم غير مناسب لحياة هذه الحيوانات الضخمة، فمن المؤكد أن كثافة الهواء وأشعة الشمس كانت مختلفة تماما منذ 70 مليون عام. مما يعني أن هذه المخلوقات قد تواجه صعوبة كبيرة في الحياة في العالم الحديث. وأضافت الدكتورة "ساتلر" أن النباتات التي حاول علماء الجزيرة إعادتها نباتات سامة قد تضر البشر والحيوانات نفسها. وكل ذلك دليل على أن المشرفين على إعادة هذه الحيوانات والنباتات ليس لديهم أدنى فكرة عن طبيعتها، وهذا النوع من الجهل إنما يشكل خطرا على العالم بأسره.

وكأن تنبؤاتهم كانت صحيحة فمنذ تلك اللحظة تتسارع الأحداث لتثبت أن الإنسان مهما حاول أن يسيطر على البيئة المحيطة به إلا أنها دائما ما تصنع أحداثا غير متوقعة لتفاجئه بها ولتثبت جهله وعجزه الكامل حتى عن الدفاع عن نفسه. فيتضح أن الخبير المسؤول عن برمجة النظام الأمني للحديقة قد تسلم الملايين لكي يسرق 15 جنينا مختلفا ليسلمها لشركة منافسة. ولكي ينجح في تهريب الأجنة قام بشلّ كمبيوتر النظام الأمني مما أدى إلى هرب الحيوانات من أقفاصها واختلاطها ببعضها. وبدأت الديناصورات المفترسة باقتناص كل من تجده على الجزيرة. ومع هذا لا يقتنع المليونير بخطورة فكرته التي يمكن أن تؤدي إلى هروب الديناصورات المفترسة ووصولها إلى القارة حيث يصعب العثور عليها والسيطرة عليها قبل أن تفترس الأبرياء. ولكنه في النهاية يقع فريسة أحد الحيوانات المفترسة. ويتمكن "غرانت" و"ساتلر" من إنقاذ حفيدي المليونير والفرار من الجزيرة.

وقد قام المخرج الشهير "ستيفن سبيلبيرغ" بتحويل الكتاب إلى فيلم هوليودي إلا أنه لم ينجح تماما في توصيل الفكرة التي أراد مايكل كرايتون أن يوضحها في كتابه. فالمؤلف يريد أن يقول أن العلم قد توصل إلى اكتشافات واختراعات مذهلة تفوق الخيال ولكن العلماء نسوا أو تناسوا الأخلاقيات فصاروا لا يكترثون بالنتائج السلبية لاختراعاتهم واكتشافاتهم. وقد شرح المؤلف هذه النقطة بإسهاب على لسان عالم الرياضيات الذي كان مدعوا لزيارة الحديقة وتقييمها أيضا. فالبروفيسور "مالكوم" كان أول المتشائمين من هذا المشروع وكان سؤاله هو: أيجب أن نصنع شيئا خارقا لمجرد إثبات قدرتنا على صنعه؟ فإن اكتشفنا أن لدينا القدرة على إعادة الديناصورات للعالم فهل نعيدها لمجرد أننا نستطيع إعادتها أم يجب أن نفكر مليّا في أبعاد استخدام هذه القدرة؟ واستشهد على فكرته باستخدام مثال رائع وهو "خبير الكاراتيه". فخبير الكاراتيه يقضي سنوات عديدة تحت تدريب قاس ومضن لكي يصنع من جسده آلة قتال خارقة لا يقف في وجهها إنسان. ولكنه عندما يصل إلى هذه المرحلة لا يستخدم قدراته في القتل، بل بتولد في نفسه احترام كبير للسلام ولقدرة الإنسان على تحقيق معظم الأغراض دون اللجوء للعنف. ولكن، وللأسف، لا نرى هذه الحكمة في علماء اليوم. فقد جاء علماء التسعينيات ووجدوا الطريق ممهدا أمامهم لصنع الخوارق، فلم يقوموا بتقديم أية تضحيات من أجل الحصول على أية معلومات، بل أتتهم جاهزة نتيجة تعب وجهد أجيال عديدة من علماء الماضي. وبذلك فقد علماء الحاضر الاحترام المطلوب لقوانين الطبيعة وللأخلاقيات. ولذلك عندما وجدوا الوسيلة لصنع المستحيل لم يتوقفوا ليفكروا في عواقب عملهم بل اندفعوا يصنعون ما يحلمون به دون تفكير أو تدبير وهمهم الوحيد كسب السباق والربح المادي.
وفي الحقيقة، أعجبتني الرواية كثيرا لأن "مايكل كرايتون" دائما ما يقضي مدة طويلة في البحث والتقصي في الموضوعات التي يكتبها وهذا شيء نادر حقا في عصر الكتب الرخيصة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ويشدني دائما موضوع الأخلاقيات في العلم والبحوث، وأجد أن هذا الكتاب خير مثال على ما وصل إليه حال العلماء اليوم – وهو شيء مخيف بالفعل. فهم ينوون اليوم استخدام الـ DNA في التحكم في مواصفات الأجنة البشرية حتى يظهر الجنين حسب طلب والديه: أشقر الشعر أزرق العينين وإلخ من المواصفات الكاملة العجيبة. ولا ندري إذا ما كان لهذا التدخل آثار جانبية خطيرة قد تودي بحياة الطفل بعد أشهر أو سنوات قليلة. فأعوذ بالله ممن اعتقدوا أنهم سينجحون في سرقة مكان الخالق سبحانه وتعالى.

No comments:

Followers